تواجه الصناعات العالمية اليوم، لا سيما قطاع السيارات والذكاء الاصطناعي، تحدياً جديداً وكبيراً يتمثل في أزمة حادة في إمدادات الرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات)، وهي أزمة تتشابك خيوطها بشكل وثيق مع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة بين القوى الكبرى. أثارت هذه الأزمة قلقاً واسعاً بين الحكومات والشركات متعددة الجنسيات، التي تدرك أن مصير إنتاجها أصبح معلقاً بمدى استقرار مناطق الإنتاج الرئيسية، وتحديداً تايوان. تأتي هذه الاضطرابات في ظل بيئة عالمية تتسم بالتحول نحو الاعتماد على التقنيات المتقدمة، مما جعل الرقائق سلعة استراتيجية توازي أهمية النفط.
في أوروبا، بدأت المصانع الكبرى، وتحديداً في قطاع السيارات، تشعر بالضغط الشديد حيث كشفت تقارير حديثة عن أن شركات مثل فولكسفاغن قد تضطر إلى اللجوء إلى نظام العمل الجزئي في مصانعها، مبررة ذلك بتعطل سلاسل التوريد. وتُقدّر الخسائر المحتملة بمليارات اليوروهات، مما يؤكد هشاشة الاعتماد الأوروبي على الموردين الخارجيين في هذه المكونات الحيوية. ويقول أحد المحللين الصناعيين في فرانكفورت: "الرقاقات الصغيرة باتت اليوم، بحجمها المحدود، تحدّد مصير صناعة قيمتها مئات المليارات"، مشيراً إلى أن الأزمة قد تغير جذرياً طريقة تفكير القارة في سلاسل التوريد.
أما في الولايات المتحدة والصين، فالصراع لم يعد اقتصادياً فحسب، بل تحول إلى صراع على الأمن التكنولوجي. فقد انضمت شركات عملاقة مثل أمازون ومايكروسوفت لدعم تشريعات تهدف للحد من قدرة شركات تصنيع الرقائق الأمريكية، مثل إنفيديا، على تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين. هذا التوتر يزيد من عزلة السوق ويضع ضغوطاً متصاعدة على سلاسل الإمداد التي تعتمد على التصنيع في آسيا، لا سيما وأن ثلث الشركات العالمية تتوقع أن تكون ظروف سلسلة التوريد في 2025 أسوأ مما كانت عليه في العام السابق. وتبرز تايوان، وشركتها TSMC، كـ "مركز الأزمة"، حيث تنتج قرابة 90% من الرقائق الإلكترونية المتقدمة، مما يجعل استقرار الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من الأمن التكنولوجي والاقتصادي العالمي.
ردًا على هذه التحديات، بدأت الحكومات في اتخاذ إجراءات لحماية أصولها التكنولوجية. ففي هولندا، استخدمت الحكومة قانوناً قديماً للسيطرة على شركة "نيكسبيريا" (Nexperia)، التي تسيطر عليها مجموعة صينية، مبررة ذلك بمخاوف تتعلق بـ "الأمن القومي". هذا التحرك يوضح أن الحكومات بدأت تفضل اتخاذ تدابير استباقية لحماية البنية التحتية الصناعية الحيوية. كما بدأت الدول تنويع مصادر التوريد، حيث تتجه الشركات الأمريكية لتفضيل المكسيك أو فيتنام والهند، لخفض الاعتماد على المصادر الآسيوية التقليدية.
يطالب خبراء الاقتصاد والسياسات بتعزيز المرونة الإقليمية والتنويع كحلول طويلة الأجل. ويؤكدون على أهمية دعم الزراعة المحلية وتطوير الصناعات التحويلية في الدول النامية للمساهمة في تحقيق استقرار الإمداد. كما تدعو التوصيات إلى تنويع مصادر الحصول على التكنولوجيا وعدم الاعتماد على طرف واحد، لأن أي اضطراب في تايوان، أو تصعيد في المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، قد يؤدي إلى تعطّل كبير في سلاسل الإمداد العالمية وتراجع الابتكار. في النهاية، يتطلب الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العالمي سياسات متوازنة تدرك أن أمن التكنولوجيا، وتوريد الرقائق، أصبحا الخط الأمامي الجديد للصراع الجيوسياسي الذي يهدد النمو المستدام.