يشهد الاستثمار السعودي تحولًا لافتًا في توجهاته وأدواته، ضمن مسار استراتيجي مدروس تقوده رؤية السعودية 2030، التي وضعت المملكة على خارطة الاقتصادات المتقدمة من خلال مشاريع طموحة وخطط تنموية لا تقتصر على البنية التحتية والقطاعات التقليدية، بل تمتد إلى التكنولوجيا والطاقة المتجددة والسياحة والخدمات المالية والرياضة· وقد أصبح صندوق الاستثمارات العامة، الذراع السيادية للمملكة، الأداة الأبرز في قيادة هذا التغيير، حيث تضاعفت أصوله إلى ما يتجاوز التريليون دولار، مع توزيع ذكي للاستثمارات في الداخل والخارج، يعكس تطورًا نوعيًا في طريقة إدارة الثروات الوطنية واستثمارها لتحقيق عوائد مستدامة·
يقول ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة، خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي الأخير، إن "الصندوق لا يستثمر فقط لأجل العائد المالي، بل لتحقيق الأثر الاقتصادي والاجتماعي داخل المملكة"، مشيرًا إلى أن "الاستثمار في قطاعات مثل السياحة والتقنية والرياضة يسهم في بناء اقتصاد حيوي ومتجدد، ويوفر آلاف فرص العمل للمواطنين"· وأضاف أن "التوجه الحالي يقوم على التوازن بين الاستثمارات العالمية والمحلية، بما يضمن تعزيز مكانة السعودية كلاعب مؤثر في الاقتصاد العالمي"·
الاستثمارات في الداخل السعودي تشهد طفرة حقيقية، حيث يتم تطوير مشاريع عملاقة مثل نيوم، ذا لاين، البحر الأحمر، ومدينة الأمير محمد بن سلمان غير الربحية، وكلها مشاريع تُدار وفق نماذج استثمارية تعتمد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتسعى إلى جذب استثمارات خارجية بمليارات الدولارات· وتُقدّر القيمة الإجمالية لمشاريع رؤية 2030 بأكثر من 7 تريليونات ريال سعودي، وهي تتوزع على قطاعات متنوعة تمثل مستقبل الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط· ومن أبرز هذه القطاعات قطاع السياحة، الذي تستهدف فيه المملكة استقطاب 100 مليون سائح سنويًا بحلول عام 2030، بدعم من تسهيلات التأشيرات وتطوير البنية التحتية الفندقية والنقل·
وفي الوقت ذاته، تواصل السعودية توسعها الاستثماري الخارجي، حيث باتت تستحوذ على حصص استراتيجية في شركات عالمية كبرى في مجالات التقنية، السيارات الكهربائية، الترفيه، والطاقة· ويُعد استثمار الصندوق في شركة "لوسيد موتورز" الأمريكية لصناعة السيارات الكهربائية مثالًا واضحًا على هذا التوجه، إذ تسعى المملكة لأن تصبح مركزًا إقليميًا لإنتاج السيارات الكهربائية، مع بدء إنشاء مصنع "لوسيد" في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية بطاقة إنتاجية تصل إلى 150 ألف سيارة سنويًا·
وفي قطاع التكنولوجيا، تستثمر السعودية بكثافة في الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية، إذ أطلقت مؤخرًا "المبادرة الوطنية للتقنية" التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى بيئة حاضنة للشركات الناشئة، مع توفير تمويلات ضخمة عبر صناديق رأسمال مغامر وتسهيلات تنظيمية· كما دشنت المملكة أول مراكز بيانات ضخمة مدعومة بالطاقة المتجددة، لتعزيز مكانتها كمركز للبيانات والخدمات السحابية في المنطقة·
القطاع الرياضي هو الآخر أصبح ساحة استثمارية جديدة للمملكة، حيث استحوذ صندوق الاستثمارات العامة على نادي نيوكاسل الإنجليزي، وأطلق الدوري السعودي للمحترفين مشروعًا غير مسبوق لجذب نجوم الكرة العالمية، ما يهدف إلى تطوير البنية التحتية الرياضية، وزيادة العائدات التجارية، وتحويل المملكة إلى مركز رياضي عالمي· وقد أشار الأمير عبدالعزيز بن تركي الفيصل، وزير الرياضة، إلى أن "الاستثمار في الرياضة ليس ترفًا بل هو جزء من استراتيجية وطنية لتفعيل دور الرياضة اقتصاديًا واجتماعيًا"·
اقتصاديًا، تعكس أرقام الأداء المالي للمملكة نجاح هذه التحولات· فقد سجلت السعودية فائضًا في الميزانية لعام 2023 تجاوز 100 مليار ريال، مدعومًا بارتفاع الإيرادات غير النفطية التي بلغت أكثر من 40% من إجمالي الإيرادات، وهو أعلى مستوى في تاريخ المملكة· كما انخفض معدل البطالة إلى ما دون 8% للمواطنين، وارتفعت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى أكثر من 35%، ما يعد مؤشرات مباشرة على نجاح السياسات الاقتصادية الجديدة·
من جهته، يرى الدكتور فهد التركي، نائب رئيس مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، أن "السعودية لا تكتفي بإدارة أموالها، بل تدير مستقبلها من خلال استثمارات استراتيجية مدروسة، تسعى لتحقيق عوائد اقتصادية وتنموية على المدى البعيد"· وأضاف أن "ما نشهده الآن هو تحوّل هيكلي في بنية الاقتصاد السعودي، بحيث يصبح أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع التغيرات العالمية، سواء في أسعار النفط أو في التحول نحو الاقتصاد الرقمي والأخضر"·
على المستوى البيئي، تستثمر المملكة في الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر، حيث أعلنت عن مشاريع كبرى لتوليد الكهرباء من الشمس والرياح، وتأسيس مدينة صناعية خالية من الكربون في نيوم· وتسعى لتحقيق الحياد الصفري لانبعاثات الكربون بحلول 2060، وهو ما يعكس التزامها بمستقبل مستدام لا يتعارض مع طموحاتها الاستثمارية·
رغم التحديات التي تفرضها البيئة الاقتصادية العالمية، سواء من حيث التوترات الجيوسياسية أو تقلبات الأسواق، تواصل السعودية طريقها بثقة، مدفوعة برؤية واضحة، وإرادة سياسية عالية، وإمكانات مالية ضخمة· وبينما تعيد رسم ملامح اقتصادها، فإنها في الوقت نفسه تعيد تشكيل دورها في الاقتصاد العالمي، لتصبح ليس فقط لاعبًا رئيسيًا في سوق الطاقة، بل مركزًا للاستثمار والابتكار والنمو في الشرق الأوسط والعالم·